
في سلسلة أفلام «الشر المتوطن»، الترجمة الدقيقة لما نعرفه عالميًا بـ«Resident Evil»، السلسلة التي لا يجهلها أحدٌ تقريبًا، والمأخوذة عن سلسلة ألعاب بنفس الاسم، تلعب شركة المظلة (Umbrella) دور قوى الشر الرئيسة، شركة عالمية متعددة الجنسيات، ورائدة في مجال صناعة الأدوية، والهندسة البيولوجية أو الحيوية، وتمتلك فروعًا ومعامل علنية وسرية، في أغلب أنحاء الأرض، ونشاطها الأساسي وسر قوتها غير المعلنة: صناعة الأسلحة البيولوجية.
ثمّة مكافئ واقعي وحقيقي بالفعل لشركة المظلّة أو أمبريللا، شركة ربما لم يسمع عنها الكثيرون في عالمنا العربي، بشكل أو آخر، لكنها معروفة عالميًا، وتنظم ضدها مظاهرات بالملايين سنويًا، في شتى أنحاء العالم، وتتحكم في القطاع الزراعي العالمي، بشكل رئيس، وعلى مدار العقد السابق أصبحت واجهة الشر، والمثال العالمي الأبرز لتوغل الشركات متعددة الجنسيات، وسيطرة الهندسة الزراعية البيولوجية على طعامنا، وأنتجت حولها أفلام وثائقية عديدة، ووجه ضدها موجات من العنف المنظم، من قبل نشطاء بيئة وآخرون، باختصار، ساحتها الخلفية فوضى مطلقة، وعلى حد تعبير ليزلي أندرسون، في مقالها الشهير «لماذا يكره الجميع منسانتو؟!»، فإن الجميع يبدو وكأن له رأي ما عن الشركة، من أفراد عائلتك، وصولًا إلى بائع لا تعرفه في الشارع.
مونسانتو.. التاريخ النووي
بدأت مونسانتو كأي شركة أخرى، مقر صغير لشركة كيميائية لا يعرفها أحد بعد، في سانت لويس بولاية ميزوري، ببدايات القرن العشرين في عام 1901، على يد جون فرانسيس كويني، الرجل الأربعيني، وصاحب 30 عامًا من الخبرة في صناعة الأدوية، والعامل في شركة الإخوة ماير، إحدى أكبر شركات صناعة الأدوية وقتها، قبل أن يستطيع توفير خمسة آلاف دولار، ليبدأ في تنفيذ الحلم الخاص به، ويفتتح شركته المسماة على اسم والد زوجته، إيمانويل ميندز دي مونسانتو، أحد رجال الأعمال الأثرياء، ومالك شركة صناعة سُكّر دولية كبرى.
في البدء كان نشاط الشركة مقتصرًا على توريد المكسبات الصناعية للأغذية، كالكافيين والفانيلين والسكارين «البديلين الصناعيين للفانيليا والسكر»، واستمر جون أربعة أعوام بين الشركة وعمله في شركة الإخوة ماير، وكان يستخدم علاقاته لتوريد منتجات شركته للإخوة ماير، حتى عام 1905، عندما بدأت الشركة تجني أرباحًا زائدة، ليترك جون عمله في ماير، ويبدأ في تنفيذ خطة التوسعة.
في عام 1919، وبعدما صنعت مونسانتو سمعة لا بأس بها، دخلت في شراكة مع معامل جراسرز الكيميائية، ثم في 1920 وسعت نشاطها لصناعات كيميائية أخرى، ثم في عام 1926، بدأت الخطوة الأولى الدالة على استراتيجية كبرى، أسست الشركة مدينة صغيرة كاملة، في ولاية إيلينوي، وسُميت على اسم الشركة، مدينة مونسانتو التي احتضنت معامل ومصانع الشركة الرئيسة، لضمان دفع الحد الأدنى من الضرائب، وأيضًا لضمان عدم عرقلة عملها بقوانين حماية البيئة، الضعيفة حينها بالأساس، لعدم وجود صلاحيات قانونية كافية لدى الحكومة الفيدرالية الأمريكية.
تولى مونسانتو الابن إدارة الشركة مكان والده، في عام 1928، وتحت إدارته بدأت الشركة قفزاتها الأخرى، فابتاعت مونسانتو في عام 1933 شركة سوان للصناعات الكيميائية، بمدينة أنستون بولاية ألاباما، لتبدأ مونسانتو في إنتاج ثنائي الفينيل متعدد الكلور (PCBs)، بكميات ضخمة وعلى مستوى صناعي، المادة التي اعتبرت فيما بعد شديدة الضرر بالبيئة، وتم منع استخدامها في عدد كبير من دول العالم.
تاريخ مونسانتو حافل منذ البدء بكل ما يمكن أن يطلق عليه «طريق سيء»، ففي عام 1936 استحوذت المجموعة الضخمة على مختبرات «توماس وهوكوالت»، شركة كيميائية صغيرة في مدينة دايتون بولاية أوهايو، وجاء الاستحواذ لا لأهمية الشركة فقط، وإنما لسعي مونسانتو وراء خبرة الدكتور تشارلز توماس، ورفيقه دكتور كارول هوكوالت، ولأهميتهما القصوى، وخصوصًا توماس، في المجال الكيميائي.
تشارلز توماس
قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بعامين، وفي عام 1943، استدعت واشنطن الدكتور توماس للقاء حضره عدد من جنرالات البنتاجون، وعلى رأسهم الجنرال ليزلي جروفز، ومعه رئيس جامعة هارفارد، والرئيس التنفيذي للجنة القومية لبحوث الدفاع (NDRC)، جيمس كونانت، محاولين بشتى الطرق جذبه من مونسانتو، للعمل في مشروع مانهاتن، المشروع الذي أنتج القنبلة النووية، ووضع العالم بأكمله على طريق الطاقة الذرية.
لم يرضخ توماس، وبدا مترددًا في تركه لمونسانتو، فما كان من القائمين على المشروع إلا إدخال مونسانتو بالكامل فيه، وبموجب عقد من الحكومة الأمريكية، بدأت منشأة الأبحاث الرئيسية لمونسانتو بالمشاركة في مشروع مانهاتن، ووضع بصمة لا يستهان بها على وصول العالم للطاقة النووية، أما توماس فكان من أعمدة الشركة، حتى وصوله إلى منصب رئيسها التنفيذي، وقضائه تسع سنوات فيه، من عام 1951 إلى 1960، ثم خمسة أعوام أخرى في منصب رئيس مجلس الإدارة، حتى عام 1965، ثم تقاعد في عام 1970.
الأيادي السوداء
لو أن مونسانتو في أي دولة أخرى غير الولايات المتحدة، لربما دفعت ثمنًا باهظًا في الستينات من القرن الماضي، أو حتى بعدها، وغالبًا لن يؤدي هذا الثمن إلا لإغلاقها، بشكل أكثر وضوحًا، لن تصبح هناك مجموعة مونسانتو على وجه الأرض، إلا أن هذا لم يحدث، لماذا؟ لأن منفذ جريمة الحرب هنا هو الجيش الأمريكي، أما صانع السلاح فهو مونسانتو.
لا يوجد أحد تقريبًا في فيتنام يجهل كلمتي «العامل البرتقالي – Agent Orange»، الاسم الكودي لحمض ثلاثي فينوكسي الخليك شديد السمية، أحد مبتكرات مختبرات مونسانتو في إطار الحرب البيولوجية، مبيدٌ نباتي سام استخدمه البنتاجون، بموافقة مباشرة من البيت الأبيض، في القضاء على الغابات الفيتنامية، والأشجار التي كان يستخدمها مقاتلو الفيت كونغ كغطاء، كجزء من حرب الولايات المتحدة عليهم، منذ عام 1961 إلى عام 1970، حيث مثلت مونسانتو حينها أكبر منتج ومورد لمبيد ألقت الولايات المتحدة منه 12 مليون رطل، أي حوالي 1.5 مليون كجم تقريبًا
خلف المبيد ما كان أشبه بنصف إبادة جماعية، وأرقام ضحايا شديدة الضخامة، حوالي 400 ألف فيتنامي ما بين قتيل ومشوه، وحوالي نصف مليون طفل ولدوا بعيوب جينية بسبب المبيد، بينما امتدت آثار المادة السامة لأجيال تالية من الفيتناميين، متسببة في تغيير جيني شامل للبشر هناك، تغيير مماثل لما فعلته آثار قنبلتي الولايات المتحدة النوويتين في اليابان.
هذه الأرقام أعلاه هي الأقرب للصواب، بحسب دراسات علمية في العقود الأخيرة، بين أرقام فيتنامية رفعت عدد الضحايا، سواء كانوا قتلى أو مشوهين أو أطفالًا بعيوب جينية، إلى أربعة ملايين شخص، وبين نفي أمريكي ووصف رسمي للأرقام بأنها «غير واقعية»، وصف رسمي امتد حتى الآن، وحتى برفض تام للاعتذار أيضًا.
في هذا الوقت استمر صعود الشركة، استحواذ على شركات كيميائية ومصانع في بلاد أخرى، عبر المحيط، وعقود دفاعية مع حكومة الولايات المتحدة، وتعاون وثيق مع هيئة الأبحاث الدفاعية القومية، أي رأسًا مع البنتاجون.
على الجانب الآخر كانت الشركة تهتم بصورتها العامة كثيرًا، فتمول أبحاثًا طبية، تابعة لجامعة هارفارد، لمقاومة السرطان، وتخصص جائزة سنوية على اسم إجار مونسانتو الابن، قدرها 2000 دولار، في نهاية السبعينات، لأحد أعضاء مجتمع مهندسي نظم الأمان والسلامة، في تشجيع على الاهتمام بنظم الوقاية من الحوادث، فضلًا عن أنها أصبحت رائدة الإلكترونيات الضوئية، بعد أن أصبحت الشركة الأولى عالميًا في انتاج المصابيح البيضاء الصلبة.
زراعة الكراهية
حتى العقد التسعيني، لم تكن مونسانتو بهذه الصورة التي تبدو عليها عالميًا الآن، كانت شركة صناعات كيميائية ضخمة، لها ما لها وعليها ما عليها، وفي الوقت الذي كانت تنتج فيه عددًا لا بأس به من المواد السامة، أو التي أثبت سميتها فيما بعد، وذكرنا عددًا منها في التقرير أعلاه، إلا أنها كانت تمثل «مستقبل الابتكار الأمريكي»، على حد تعبير ليزلي في مقالها، ثم اتخذت المجموعة قرارًا قياسيًا، في أوائل الثمانينيات، بالتحول إلى المجال الزراعي، والبدء في إنتاج البذور الزراعية المهندسة وراثيًا، والمعدلة جينيًا.
ظلت الأمور بخير، ولا يقابل اتجاه الشركة إلا منظمات البيئة، والنشطاء البيئيون، ومؤيدو الزراعة العضوية، حتى عام 1996، حيث عالم ما بعد انتشار «جنون البقر» في بريطانيا، وموت عشرة بريطانيين بنوع جديد من مرض كروتزفيلد جاكوب العصبي (CJD)، والذي رُبطَ حينها، بشكل جماهيري أكثر منه طبي، بجنون الأبقار.
حدث هياج عام في بريطانيا بسبب المحاصيل المعدلة وراثيًا، وتم الربط بينها وبين جنون الأبقار، وبالتالي وصولًا إلى حالات الوفاة، وبدأت ما بدا أشبه بحملة شعواء من الجميع، هاج نشطاء البيئة والمنظمات البيئية، وعلى رأسها منظمة السلام الأخضر، ودفعت كبرى سلاسل التجزئة البريطانية ضد المنتجات الزراعية المعدلة وراثيًا، وحتى الأمير تشارلز بنفسه، أحد كبار مؤيدي الزراعة العضوية، كتب افتتاحية صحافية قال فيها إن «الهندسة الوراثية الزراعية تأخذ البشرية إلى عوالم تنتمي إلى الله، إلى الله وحده»، مصدرًا صورة المجهول القابع وراء سلعة مونسانتو الرئيسة.
فجأة وجدت مونسانتو نفسها في قلب الهدف، والكل يصوب عليها، وجاء رد فعلها في البداية متعاليًا بشدة، حتى أن رئيس قسم الاتصالات في المجموعة الدولية، فيليب أنجل، وصف البريطانيين بـ«أكياس الدموع الحزينة الأوروبية»، وهو التصريح الذي لم يكسب مونسانتو شعبية إضافية كما هو بديهي، بينما كان الاتجاه العام داخل الشركة هو التعالي، أو كما قال مصدر عمل حينها في المجموعة: «إن ظهرت محاولات جدية لمنع البذور المهندسة وراثيًا، سنقاضيهم».
اشتدت الهجمة أكثر، وبدأت تلحق أضرارًا دعائية بالغة السوء بالمجموعة، مما جعلها تطلق حملة إعلانية في بريطانيا، وأجزاء من أوروبا، بقيمة 1.6 مليون دولار، تقول فيها أن «الهندسة الزراعية الوراثية مسألة آراء، وينبغي السماع للجميع»، واضعة في الحملة أرقام التواصل معها، وأرقام التواصل مع جماعات معارضة أيضًا، مثل السلام الأخضر، إلا أن الحملة أتت بمردود أكثر سلبًا، وقوبلت باستهجان عام «لسطحيتها»، وترسخت الصورة بالغة السوء لمونسانتو أكثر فأكثر، وما بدا وكأنه قضية بريطانية محلية، تحول إلى جدال عالمي، جدال كان للمنظمات البيئية فيه اليد العليا.
الشيطان يعظ!
يحاجج البعض بأن منطقة الهندسة الوراثية في مجال الزراعة والتعديلات الجينية على البذور هي منطقة رمادية علميًا، حيث لم يثبت ضرر مستدام في هذه التكنولوجيا، وإنما، وكما يرون، تلعب هنا منظمات حماية البيئة، ونشطاء الزراعة العضوية، على استثارة خوف العامة وعواطفهم من المجهول، مسارعين إلى ربط كل كارثة زراعية أو حتى بوادرها بالهندسة الوراثية، وبالتالي مونسانتو بالطبع.
إلا أن نهج مونسانتو نفسه مثير للشكوك، فهي تحتكر التكنولوجيا بموجب براءات اختراع، وتصدر البذور التي تعطي محاصيل محسنة، وأضعاف الإنتاجية الطبيعية، بعقود لازمة، تمنع تمامًا استخدام البذور مرة أخرى، أو إعادة إنتاجها، عقود تدافع عنها بشراسة، وتذهب إلى أقاصي الأرض لمقاضاة مزارعين ومنظمات، وشركات وحتى حكومات، عرفت مونسانتو عنها خرق هذه العقود.
لا تنتهي معارك مونسانتو بالنصر دائمًا، وربما كانت كيانًا بالغ الضخامة، ومنتج البذور الزراعية العالمي الأول والأكبر، بقيمة سوقية إجمالية تتعدى 21 مليار دولار، وبانتشار في 67 دولة، وبتعداد موظفين يبلغ 21 ألفًا، إلا أن معاركها لا تنتهي كلها بالنصر، وتمثل قبضة المنظمات البيئية عليها ورقة رابحة، تستخدمها بعض الحكومات لما يمكن أن نطلق عليه قصقصة بعض أجنحة الشركة.